السعادة في نظر الدين
بقلم/ دكتور ياسر جعفر
جاء في كثير من الكتب بيان معني هذه الكلمة التي يتمني كل واحد إدراكها ويرغب في تحصيلها كل إنسان، وأشار كل بما أدي إليه إلي نيل السعادة التي هي الغاية المطلوبة، ومن هؤلاء العلامة ابن القيم فقد فصل القول في ذلك وبسط الكلام في كتابه” مفتاح دار السعادة” وكذلك في رسالته” التبوكية” وذكر في هذه الأمور الثلاثة أسباباً لسعادة الإنسان وفوزه بالنعيم المقيم، وإذا ما تدبر العاقل هذه الأسباب وجدها تجمع للعبد خيري الدنيا والآخرة وبيان ذلك أن الإنسان إذا أنعم عليه ربه بنعمة من النعم الدينية والدنيوية فإنه يجب شكر المنعم، فيعتقد بقلبه أنها من عند الله ويقر بلسانه علي مقتضي أعتقادة ويعمل بجوارحه من الطاعات ما أوجبه الله علي كل مسلم من العبادات ولا ينبغي للعبد الاقتصاد علي أداء ما فرضه الله عليه بل يزيد من نوافل الطاعات التي هي من جنس الواجبات فإن النوافل تكمل ما أوجبه الله عليه من الفرائض التي ربما حصل في بعضها نقص وتفريط، فإذا فعل ذلك فقد أدي شكر نعمة الله عليه وأستحق من الله المزيد وكما أنه يجب عليه فعل الطاعات شكر لما أنعم الله به عليه من نعمة الإسلام وأقدره علي فعل الطاعات بصحة عقله وسلامة بدنه، فكذلك يجب عليه حفظ جوارحه من المخالفات لأمر الله فيحفظ يده من تناول الحرام، ورجله من المشي إلي مواضع الأثم والعصيان، وعينيه من النظر إلي ما حرم الله عليه ويصون لسانه عما يغضب الله، وكذلك يحفظ قلبه من الإصرار علي الاعتقادات الفاسدة والشهوات المضلة، ومن الكبر واحتقار الناس والحسد الذي يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وكذلك من أتاه الله مالاً، وجب عليه شكر ربه بأداء حقوق المال التي أوجبها الله عليه كالزكاة وسائر النفقات التي هي واجبة شرعاً علي الإنسان فإنه بفعل ذلك يكون أي شكر نعمة المال فأستحق من الله الجزاء والثواب والإحسان بخلاف من رزقه الله مالاً ولم يعمل به صالحاً ويسلك به مسالك الخير ويبذله في طرق البر والمعروف التي أمر الله بها، بل جعل ماله وسيلة لنيل شهواته المحرمة وأسرف ببذله في طاعة الشيطان، فهذا المغرور جحد نعمة ربه عليه وصار ماله زيادة في عذابه وسبباً لمقته وحرمانه من خير الدنيا والآخرة، حيث استعان بنعمة الله المالية والبدنية علي معاصي الله، فهذا شقي محروم بعيد من السعادة التي يظن الجاهل المغرور أنه أدركها ونالها، وأما السبب الثاني للسعادة فهو “الصبر” عند نزول البلاء، وذلك إن الإنسان معرض في دنياه لآفاتها ومصائبها، فيناله منها ما لا يحبه ولا يألفه ولا يرضاه من الأسقام وفقد الأحبة ونقص الأموال، وغير تلك مما يبتلي الله به عموم عباده من مصائب الدهر التي لا منجاة منها ولا مفر عنها وربما صارت ناشئة عن محبة الله لعبده، فتكون سبباً لسعادة العبد ورضي ربه عنه إذا لزم عند نزولها حدود الشرع بقوله{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ولم يتجاوزها إلي ما نهي الله عنه، وإلي ذلك يرشد قوله (ص) “إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضي ومن سخط فعليه السخط” ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام أشد الناس بلاء في هذه الدنيا، قال بعض الصحابة، كأني أنظر إلي رسول الله (ص) يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه وقول” اللهم أغفر لقومي فأنهم لا يعلمون” فإذا كان الأنبياء وهم صفوة الخلق وأحب العباد إلي الله تنالهم مصائب الدنيا فيصبرون رضاءً بقضاء الله وطلباً للثواب، فحقيق لكل عبد الاقتداء بهم والسير علي منهاجهم حتي تحصل له السعادة ويفوز برضي الله عنه سبحانه وتعالي، فإن هذه المصائب التي يجب الصبر عند نزولها إنما تقع بقضاء الله وقدره وقد ثبت في أصول الدين أن الإيمان بالقدر السابق أصل من أصول الإيمان يكفر جاحده، فلهذا يجب علي العبد الرضا بتقدير الله وما أجراه عليه من المصائب في دنياه فيرضي بالقضاء ويصبر علي المقضي به من مرض وموت قريب، ونقص من الأموال ويرضي بما قسم الله له من رزق قليلاً كان أو كثيراً، لأن قسمة أرزاق العباد سبقت في الأزل، فلا اعتراض علي القاسم بل ربما صار ضيق العيش سبباً لصلاح دين العبد، كما في الحديث القدسي ” إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالفقر ولو بسطت عليه لأفسده ذلك” والصبر المحمود هو الصبر الجميل، فيحبس لسانه وجوارحه عن كل ما حرم الله من الجزع الشديد المنافي لشرع الله ودينه ويحفظ لسانه عن الشكوي لغير الله فإن شكواه إلي العباد لا تفيد ولا تجدي شيئاً، وأما السبب الثالث لسعادة العبد وفوزه برضي ربه ومغفرته فهو “الاستغفار” الذي هو داء الذنوب كما جاء في الحديث” إن لكل داء دواء، وإن دواء الذنوب الاستغفار” ولما كان العبد ربما وقع منه ما يخل بتقواه أرشده النبي (ص) إلي ما يذيل هذا من الطاعات ويرده إلي تقواه، لأن حسنة الاستغفار تمحو سيئة الذنوب كما قال عليه الصلاة والسلام ” وأتبع السيئة الحسنة تمحها ” فمن حفظ هذه الأسباب الثلاثة التي أشرنا إلي تفصيلها إشارة موجزة حاز السعادة في الدنيا والآخرة، لأنه أتي بأعظم ما يقرب إلي الله من العمل بطاعته وترك معصيته، وأما ما يظنه الجاهل المغتر بشابه وماله وجاهه وغير ذلك من أعراض الدنيا الزائلة أنه سعيد بذلك فيسترسل ببذله ماله في الحرام ويفني شبابه بإتباع طرق الآثام فهذا ظن سئ ووهم باطل، ناشئ عن غرور الشيطان وتسويله وتزينه طرق الشر حتي صارت عاقبة أمره إلي الذل والخذلان والهوان، لأنه أطاع شيطانه وعصي ربه، فهذا هو المخذول ويسأل يوم القيامة عن جميع هذه الأعراض الدنيوية كما قال عليه الصلاة والسلام “لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ ”
وفي حديث أخر رَوى ابنُ حِبَّانَ والترمذيُّ في جامِعِه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: “لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ عَن عُمُرِه فيما أفناهُ وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ”..
وإلي هنا أكتفي بهذا القدر