من الدين الفرار من الفتن



بقلم الدكتور/ ياسر جعفر

نعم من الدين النصح العام من عدم التصدي للفتن بكافة أنواعها خاصة في هذا الزمن الصعب زمن الفتن، زمن الخيانات، زمن امتلأ فيه غش البشر، وظلم البشر، عليك أيها الإنسان العاقل عدم التصدي لهذه الفتن لأنها تأكل الأخضر واليابس، وحذرنا رسول الله (ص) من ذلك بحديث صحيح، عن أبي سعيد الخدري رضي أنه قال: قال رسول الله (ص) ” يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَن ” الابتلاء والامتحان، الامتحان والاختبار، ويكون ذلك بأشياء فتسمي فتنة وإذا الاختيار إلي مكروه سمي فتنة، لأن الأول سبب والتاني مسبب، وقد اشتهر في مجازيه جميعاً كأصله فصار حقيقة عرفية كما كان في أصله حقيقة لغوية، قال اللغويون وأصلها مأخوذ من قولك فتنت الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار لتميز الردئ من الجيد، ودينار مفتون ومن هذا الأصل الأول جاء قوله تعالي {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}، وقوله جل شأنه {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} أي امتحانا واختباراً، ومن الثاني وهو إطلاق الفتنة علي ما يكون به الاختبار، الفتنة بمعني الإحراق ومنه قوله تعالي {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} أي يحرقون، وقوله تعالي {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي حرقوهم في الأخدود، والفتنة بمعني المال وبمعني الأولاد وبمعني النساء وبمعني الجنون، ومنه {بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ} أي المجنون أو الجنون من استعمال اسم المفعول في المصدر كالموعود والميسور والمعسور، وكما يكون السبب من جنس الخير كالمال والنساء والأولاد، يكون من جنس الشر الإحراق والجنون ومنه الفتنة بمعني العذاب وبمعني اختلاق الآراء وبمعني القتل ومن جوامع الفتنة بالخير والشر حديث الاستعاذة من فتنة المحيا وفتنة الممات ومن فتنة الغني والفقر والمسيخ الدجال وفتنة القبر ومن الفتنة مساءلة منكر ونكير، ومن الثالث الفتنة بمعني الأثم والكفر والضلال وكل ما تسبب عن الامتحان والاختبار من شرور ومجمل الفتن صعب وإذا لم يصبر الإنسان للفتن هلك وتدمرت حياته ولقد حذر النبي (ص) أمته فتنة الحياة الدنيا وزهرتها في مثل قوله ” إن الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ” وقوله ” إنَّ ممَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ” وها هو ذا ينذر أن ما يخافه قريب الوقوع حتي يصير خير مال المسلم غنماً يتبع بها شَعَفَ الجبال ومواقع القطر، لأن المسلمين مالبثوا بعد رسول الله (ص) إلا يسيراً حتي وجدوا أن الدنيا قد أقبلت عليهم وأن مفاتيح الأرض صارت بأيديهم فأثروا بعد فقر، وملكوا بعد فقد، وعزوا بعد ذل، وآمنوا بعد خوف، وانتقلوا من الجدب إلي الخصب، ومن البداوة إلي الحضارة تحقيقاً لوعد الصالحين إذا يقول {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وقد تشتد الفتن بالإنسان ليصبح فريسة لها ويسلم نفسه لها من شدة الفتن كما في حديث رسول الله (ص) روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله (ص) ”  لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يَسْلَمُ لِذِي دِينٍ دِينُهُ إِلا مَنْ فَرَّ بِدِينِهِ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ , وَمِنْ شَاهِقٍ إِلَى شَاهِقٍ , وَمِنْ جُحْرٍ إِلَى جُحْرٍ كَالثَّعْلَبِ الَّذِي يَرُوغُ ” , قَالُوا : وَمَتَى ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : ” إِذَا لَمْ تُنَلِ الْمَعِيشَةُ إِلا بِمَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الزَّمَانُ حَلَّتِ الْعُزُوبَةُ ” , قَالُوا : وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَقَدْ أَمَرْتَنَا بِالتَّزَوُّجِ ؟ قَالَ : ” لأَنَّهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الزَّمَانُ كَانَ هَلاكُ الرَّجُلِ عَلَى يَدَيْ أَبَوَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبَوَانِ فَعَلَى يَدَيْ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ وَلا وَلَدٌ فَعَلَى يَدَيْ قَرَابَتِهِ ” , قَالُوا : وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” يُعَيِّرُونَهُ بِضِيقِ الْمَعِيشَةِ فَيَتَكَلَّفُ مَا لا يُطِيقُ حَتَّى يُورِدَهُ مَوَارِدَ الْهَلَكَةِ ” وهو الزمان الذي في قوله معاذ النسقي رضي الله تعالي عنه قال، قال رسول الله (ص) ” سيأتي علي الناس زمان يخالفون فيه سنتي ويجددون البدعة، فمن اتبع سنتي يومئذ صار غريباً ويبقي وحيداً، ومن اتبع بدعة الناس وجد خمسين صاحباً أو أكثر، قالت أصحاب الرسول، هل بعدنا أحد يكون أفضل منا؟ قال نعم، قالوا فهل يرونك؟ قال النبي (ص) لا، قالوا فهل ينزل عليهم الوحي؟ قال لا، قالوا كيف يكونون فيه؟ قال كالملح في الماء تذوب قلوبهم كما يذوب الملح في الماء، قالوا كيف يعيشون في ذلك الزمان؟ قال كالدود في الخل، قالوا يا رسول الله كيف يحفظون دينهم؟ قال كالجمر في اليدين إن وضعته طفئ وإن أخذته باليد أحرق ” وعن أبي موسي رضي الله عنه أنه قال، قال رسول الله (ص) ” « إِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فِتَنًا كَقِطَعِ اَللَّيْلِ اَلْمُظْلِمِ, يُصْبِحُ اَلرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا, وَيُمْسِي مُؤْمِنًا, وَيُصْبِحُ كَافِرًا. اَلْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ اَلْقَائِمِ, وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ اَلسَّاعِي. قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اَللَّه؟ قَالَ: كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُم ” ويفضل العزلة لما فيها من السلامة المحققة، لكن يشترط أن تكون عارفاً بوظائف العبادة التي تلزمه وما يكلف به، ولكل من المذهبين وجهة، فأن الشافعي ومن معه يرون أن الوقتين، وقت الفتنة ووقت السلامة ليسوا سواء، وهو المعروف بالضرورة من الدين وأما غيرهم فإنه إذا يطلب السلامة المحققة يبني علي أن زمن السلامة من الفتنة قد أنتهي منذ مقتل عثمان ثم علي رضي الله عنهما، وما آلت إليه حال المسلمين من فساد في الملك والسياسة والحكم والأخلاق، والفصل في هذا الخلاف يرجع كما سبق إلي تفاوت الرجال، فالقادرون في الحالين غير العاجزين، ولم تزل الأمة تنتقل من سيئ إلي أسوأ حتي صارت لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً، ولا تؤيد حقاً، ولا تخذل باطلاً، وكيف لا؟ وقد تركتم الفتنة حثالة تقتل خلفاءها وتتوزع أقطار الدول الإسلامية فيما بينها، إلي أحوال أجتماعية لزمت هذا الفساد السياسي، غاص معها الوفاء وذهب الحياء، وانقطعت الرحمة وعمت المحنة، إلي حد جعل سفيان الثوري وهو من زهاد القرن الثاني وممن أختبأ خوف القتل لقوله الحق، يقول ما بالكوفة رجل أثق به في قرض عشرة دراهم إلا رجل إن أعطاينها نوه بأسمي فيها، وعنه أصحب من شئت ثم أغضبه ثم دس إليه من يسأله عنك، وعن عطاء بن مسلم، قال لي سفيان بإعطاء أحذر الناس واحذرني، وقلت حامضة لخشيت أن يشيط بدمي” وعن عبد الله بن مرزوق، استشرت الثوري فقلت، أين تري أنزل؟ فقال بمر الظهران ” واد من أودية مكة” حيث لا يراك أحد.

وكيفية الخروج من الفتن هيكون في العدد القادم إن شاء الله تعالي.

نسأل الله السلامة من الفتن ما ظهر منها وما بطن ..

زر الذهاب إلى الأعلى