ليسوا سواء.. مبدأ تفريد العقوبة الجنائية

بقلم المستشار محمد إبراهيم عوض الرئيس بمحكمة استئناف القاهرة
العقوبة هي الجزاء الذي يفرضه القانون على كل من يثبت أنه ارتكب جريمة جنائية ، وتهدف من حيث الأصل إلى تحقيق الردع بنوعيه العام والخاص بما يحقق الحماية للمجتمع
وتتنوع العقوبات من حيث طبيعتها وشدتها بما يتناسب مع الجرم الذي ارتكبه الجاني
ويقصد بتفريد العقوبة جعلها ملائمة لظروف المجرم الشخصية المتمثلة في تكوينه الجسمي والنفسي والاجتماعي، وحالته قبل واثناء وبعد ارتكاب الجريمة، وطريقة ارتكابه الجريمة والوسائل المستعملة في ارتكابها، والاضرار التي اصابت المجني عليه أو المجتمع من جراء الجريمة المرتكبة، والباعث على ارتكاب الجريمة.
وعلى ذلك فإنه لا تجــــوز معاملة المتهمين بوصفهم نمطًا ثابتًا، أو النظر إليهم باعتبار أن صورة واحدة تجمعهم لتصبهم في قالبها فالأصل في العقوبة هو تفريدها لا تعميمها، وتقرير استثناء من هذا الأصل – أيًّا كانت الأغراض التي يتوخاها – يعني أن المذنبين جميعهم تتوافق ظروفهم، وأن عقوبتهم يجب أن تكون واحدة لا تغاير فيها، وهو ما يعني إيقاع جزاء في غير ضرورة، بما يفقد العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتها، وبما يقيد الحرية الشخصية دون مقتضى، ذلك أن مشروعية العقوبة مناطها أن يباشر كل قاضٍ سلطته في مجال التدرج بها وتجزئتها، تقديرًا لها، في الحدود المقررة قانونًا، وفي حرمان القاضي من سلطته في مجال تفريد العقوبة ما يؤدي إلى أن تفقد النصوص العقابية اتصالهــــا بواقعها، فلا تنبض بالحياة، ولا يكون إنفاذها إلا عملاً مجردًا يعزلها عن بيئتها، دالًّا على قسوتها أو مجاوزتها حد الاعتدال، جامدًا فجًّا منافيًا لقيم الحق والعدل.
ومن أهم مظاهر تفريد العقوبة هي الظروف التي يقدر المشروع سلفا أنها توجب تشديد العقوبة وهو ما يعرف بالظروف المشددة ومنها ظرف سبق الإصرار المنصوص عليه في المادة 231 من قانون العقوبات ، ومن تلك المظاهر أيضا الظروف التي يترتب عليها تخفيف العقوبة كما في حالة الزوج الذي يفاجئ زوجته متلبسة بالزنا فيقتلها ومن يزني بها إذ قررت المادة 237 من قانون العقوبات تخفيف عقوبته من السجن المؤبد إلى الحبس وهى عقوبة لا يزيد حدها الأقصى عن ثلاث سنوات ، وقد قصد المشرع بالنص على تلك الظروف وإعمال أثرها أن يضمن ملائمة العقوبة مع وضع المجرم الخاص في حالات بعينها، وهذا ما يسمى بالتفريد التشريعي او القانوني.
ولئن كان التفريد التشريعي للعقوبة لازمًا ومهمًا في بعض الأحيان إلا أنه قد لا يكون ملائماً لحالة كل مجرم وظروفه الخاصة، لذا نجد أن المشرع يتيح للقاضي الذي يقوم على تطبيق العقوبة نظم متعددة يستطيع بمقتضاها أن يحدد العقوبة المناسبة، فيتحقق بذلك التفريد القضائي للعقوبة والذي يبرز الدور الإيجابي للقاضي الجنائي، ومن أهم هذه النظم في القوانين الجنائية الحديث التدريج الكمي للعقوبة بين حدين أعلى وأدنى ويكون للقاضي أن يحدد العقوبة فيما بين هذين الحدين وفق ظروف كل واقعة وكل متهم، ومن ذلك أيضاً التمييز النوعي بين عقوبتين أو اكثر أو الجمع بينهما مثل التخيير بين عقوبة الحبس والغرامة أو الجمع بينهما
ويعد كذلك من قبيل التفريد القضائي للعقوبة تخفيف تلك العقوبة إلى ما دون الحد الأدنى ومن ذلك ما نصت عليه المادة 17 من قانون العقوبات فيما يعرف برأفة القضاة وبموجبه يجوز للقاضي وفقاً لظروف الجريمة وظروف مرتكبها أن ينزل بالعقوبة عن الحد الأدنى المقرر لها قانوناً وذلك بمقدار درجة أو درجتين فمثلاً للقاضي أ يستبدل عقوبة الاعدام بعقوبة السجن المؤبد أو المشدد ، وله أن يستبدل عقوبة السجن بعقوبة الحبس الذي لا يقل عن ثلاثة أشهر .
وأخيراً فقد اتجهت السياسة الجنائية في هذا العصر، إلى منح سلطة التنفيذ صلاحيات واسعة، والغرض منها جعل العقوبة أكثر ملائمة لشخصية المجرم. وذلك في ضوء سلوكه وتصرفاته خلال مدة التنفيذ، واستنادا لذلك فقد ظهرت انظمة قانونية لتحقيق نفس الغاية ومن هذه الأنظمة العفو عن العقوبة والافراج تحت شرط والعقوبة غير المحددة المدة
وخلاصة القول أن العقوبة الجنائية كيما تحقق الغاية منها لابد أن تتميز بالمرونة وأن يكون للقاضي سلطة واسعة في اختيار العقوبة التي تتناسب مع ظروف كل جريمة وكل مذنب على حده فلا تتحدد تلك العقوبة في قالب جامد لا مرونة فيه ينظر إلى مرتكبي الجرائم باعتبارهم نمطاً واحداً ويوقع عليهم جزاء جامداً لا يأخذ بعين الاعتبار ظروف الجريمة وشخص مرتكبها.