قرينة البراءة بين القانون والشريعة الاسلامية



بقلم المستشار محمد إبراهيم عوض الرئيس بمحكمة استئناف القاهرة

مؤدى قرينــة البــراءة أن كــل مــتهم بجريمــة مهمــا بلغــت جــسامتها يجــب معاملتــه بوصــفه شخــص بريء حتــى تثبــت إدانتــه بحكــم قــضائى بــات ، ويقــصد بقرينــة البــراءة أن الأصــل فــى ً المــتهم براءتــه ممــا أســند إليــه، ويبقــى هــذا الأصــل ثابتــاً حتــى تثبــت الجهــة القــضائية المختــصة إدانته ، والغايـة مـن تقريـر قرينـة البـراءة هي ضـمان احتـرام حقـوق الإنـسان وكفالـة حرياتـه الأساسـية فى كل الإجراءات القضائية المتخذة فى مواجهة المتهم بما يكفل عدم إدانة شخص ومجازاته فى شخصه وماله أو فى الاثنين معا ً إلا بقيام دليل يقينى كاف لنسبة التهمة إلى مرتكبيها. ويعد افتراض البراءة فى الإنسان من المبادئ القانونية المستقرة فى المواثيق الدولية والدساتير والقوانين الجنائيـة الوطنية
فقد نص الإعلان العالمي لحقوق الانسان في المادة 11 منه على أن كلُّ شخص متَّهم بجريمة يُعتبَر بريئًا إلى أن يثبت ارتكابُه لها قانونًا في محاكمة علنية تكون قد وُفِّرت له فيها جميعُ الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه.

وعلى المستوى الوطني أكد دستور جمهورية مصر العربية الصادر عام 2014 على مبدأ قرينة البراءة في المادة (96) والتي تنص على أن: المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه.

وهذا النص يعكس التزام المشرع المصري بحماية حقوق المتهمين وضمان محاكمتهم بعدالة مع التأكيد على أن الإدانة لا تتم إلا بناءً على أدلة يقينية.

أمـا قرينـة البـراءة مـن منظـور الـشريعة الإسـلامية، فقـد أكـد عليهـا حـديث الرسـول صـلى الله عليـه وسـلم بقولـه لو يُعطى الناس بدعواهم لادّعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر.” وحديث “ادرؤوا الحـدود عـن المـسلمين مـا اسـتطعتم، فـإن الإمـام إن يخطـئ فـى العفـو خيـر مـن أن يخطـئ فـى العقوبـة ، ويعبـر فقهـاء الـشريعة الإسـلامية عـن مبـدأ قرينـة البـراءة بقـولهم إن المـتهم حالـه حـال براءة أصلية، أو حالـه حـال اسـتحباب البـراءة، كمـا أن مـن القواعـد الأساسـية فـى الفقـه الإسـلامية أن الأصل براءة الذمة.

وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا على قرينة البراءة في العديد من أحكامها فقررت أن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد سواء أكان مشتبها فيه أو متهما باعتباره قاعدة أساسية في النظام الإتهامي أقرتها الشرائع جميعها لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين، وإنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة الموجهة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة الإجرامية ذلك أن الاتهام الجنائي في ذاته لا يزحزح أصل البراءة الذي يلازم الفرد دوما ولا يزايله سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثنائها وعلى امتداد حلقاتها وأيا كان الزمن الذي تستغرقه إجراءاتها، ولا سبيل بالتالي لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التي تبلغ قوتها الإقناعية مبلغ الجزم واليقين بما لا يدع مجالا معقولا لشبهة انتفاء التهمة، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائي استنفد طرق الطعن فيه
وعلة ذلك أن إدانة المتهم بالجريمة إنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية وأكثرها تهديداً لحقه فى الحياة وهى مخاطر لا سبيل إلى توقيها إلا على ضوء ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد فى الحرية من ناحية وحق الجماعة فى الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى.

ويتفرع عن قرينة البراءة قاعدتين أساسيتين أولاهما أن عبء إثبات التهمة يقع على عاتق النيابة العامة باعتبارها جهة الاتهام حيث يتعين عليها تقديم الأدلة الكافية لإثبات ارتكاب المتهم للجريمة ولا يجوز تكليف المتهم بإثبات براءته وثانيتهما أنه لا يجوز للمشرع أن يسن قوانين تنقل عبء الإثبات إلى المتهم كافتراض أمر معين يتصل بالتجريم ونقل عبء نفيه إلى المتهم
والخلاصة أن قرينة البراءة هي أحد أهم المبادئ التي تحمي حقوق الإنسان في مواجهة السلطة، حيث تؤكد أن الأصل هو البراءة، وأن الإدانة لا تكون إلا بناءً على أدلة قاطعة. وقد كرّست القوانين الدولية والدساتير الوطنية، بما في ذلك الدستور المصري هذا المبدأ لضمان تحقيق العدالة. كما أيدت المحاكم المصرية وعلى رأسها المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض هذا المبدأ في أحكامها ويتفق هذا المفهوم مع مبادئ الشريعة الإسلامية التي جعلت عبء الإثبات على المدعي وليس على المتهم مما يعكس انسجام العدالة الجنائية الحديثة مع القيم الإسلامية.

زر الذهاب إلى الأعلى