أرخص علاج.. يعالج الاكتئاب ويزيد هرمونات الراحة

“إن كان للدواء اسم، فهو المشي”، بهذه الكلمات استهل البروفيسور الأميركي أندرو موراي مقاله في المجلة البريطانية للطب الرياضي الصادرة في يونيو (حزيران) 2024، معلقاً على النتائج اللافتة لتأثير المشي اليومي في تعزيز صحة القلب وحرق الدهون والوقاية من أمراض العصر المزمنة والخطيرة.
وبرغم بساطته أثبت المشي أنه لا يقل فاعلية عن التمارين المعقدة أو البرامج الغذائية الصارمة، بل إنه كما تقول دراسة نشرت في مجلة “جاما” الصحية عام 2023 من أكثر السلوكيات الصحية قابلية للاستدامة لدى البشر.
كم خطوة تحتاج فعلاً؟
وخلال عقود مضت تم الرواج لشعار “10 آلاف خطوة في اليوم” ضمن حملات التوعية الصحية، لكن دراسة حديثة نشرت في المجلة الأوروبية لأمراض القلب الوقائية، كشفت عن أن الاكتفاء بـ7 آلاف إلى 8 آلاف خطوة يومياً يكفي لتحقيق فوائد صحية ملموسة، بل ويقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة تصل إلى 40 %.
وخلال لقاء مع صحيفة “ذا جارديان” البريطانية، أكدت المتخصصة في الطب العام والوقاية، الطبيبة البريطانية ليزا بيكر، أن “التركيز على عدد خطوات مقبول وواقعي مثل 6500 7 آلاف يزيد من التزام الناس، خصوصاً غير الرياضيين، وهو ما نحتاج إليه في مواجهة وباء الخمول والكسل”.
المشي وحرق الدهون
وقد يبدو المشي أقل جدوى عند مقارنته بالجري أو تمارين المقاومة، لكن دراسة أميركية نشرت في مجلة “أوبيسيتي” العلمية المتخصصة في السمنة، كشفت عن أن المشي السريع بمعدل 30 دقيقة يومياً، خمسة أيام في الأسبوع، أسهم في خفض دهون البطن بنسبة 9% لدى الأشخاص ذوي الوزن المتزايد .
وأكدت الدراسات أن المشي لا يقل فاعلية عن التمارين المعقدة أو البرامج الغذائية الصارمة (غيتي) أثبت المشي أنه لا يقل فاعلية عن التمارين المعقدة أو البرامج الغذائية الصارمة (غيتي)
وأوضحت الدراسة أن السر لا يكمن في السرعة فحسب، بل في الانتظام. فالمشي المستمر، حتى بوتيرة متوسطة، يحفز الجسم على استهلاك الدهون كمصدر رئيس للطاقة، كذلك فإن إدراج ما يعرف بالمشي المتقطع أي التناوب بين دقائق من المشي السريع والبطيء يعزز معدل الحرق بنسبة 20% وفق دراسة نشرت هذه النتائج في عدد مايو (أيار) 2024 من مجلة “سيل ميتابوليزم” العلمية المتخصصة في دراسات التمثيل الغذائي.
توقيت المشي يحدث فرقاً
ولا يتوقف أثر المشي عند مسألة الوزن فحسب، بل يتجاوزها ليشمل تنظيم مستويات سكر الدم وتحسين عملية التمثيل الغذائي. فبحسب تقرير نشر في أبريل (نيسان) 2024 عن دار النشر الصحية التابعة لجامعة هارفرد، فإن المشي لمدة 15 دقيقة بعد كل وجبة رئيسة يسهم في خفض ارتفاع الجلوكوز في الدم، ويحسن من استجابة الجسم للإنسولين، مما ينعكس إيجاباً على الوقاية من الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني.
وفي هذا السياق، يقول استشاري الغدد الصماء في “مايو كلينك” الدكتور راج باتيل، “نحن لا نبالغ حين نقول إن المشي بعد الأكل قد يكون أكثر تأثيراً في سكر الدم من بعض أدوية الخط الأول”.
تأثيرات عقلية وعاطفية غير متوقعة
ولا يعتبر الجسد وحده المستفيد من خطوات المشي، بل العقل أيضا وفق راسة يابانية أجرتها جامعة تسوكوبا في مارس (آذار) 2024 على عينة من 700 شخص، أظهرت أن المشي لمدة 20 دقيقة في يوم العمل يقلل من هرمونات التوتر (الكورتيزول) بنسبة 28 في المئة، ويرفع من معدلات الدوبامين والسيروتونين المرتبطة بالراحة النفسية والجسدية.
وخلال لقاء مع “نيويورك تايمز” وصف المدير السابق للمعهد الوطني للصحة العقلية، الطبيب النفسي الأميركي توماس إنسيل، المشي بأنه “أرخص مضاد اكتئاب متاح للجميع… بلا وصفة طبية”.
هل يمكن لعادة بسيطة كالمشي أن تطيل العمر؟
وقد جاءت الإجابة بنعم في دراسة شاملة نشرت في مجلة “نيتشر إيدجينغ” العلمية المتخصصة في الشيخوخة، في عدد يونيو الماضي، وشملت بيانات أكثر من 40 ألف مشارك من أوروبا وأميركا.
وقد خلصت الدراسة إلى أن الأشخاص الذين يمشون بانتظام (أكثر من 6 آلاف خطوة يومياً) تقل لديهم أخطار الوفاة بجميع الأسباب بنسبة 38 في المئة، مقارنة بمن يمشون أقل من 3 آلاف خطوة.
أسلوب حياة
وربما يكمن سر النجاح في التفاصيل الصغيرة، لا في القفزات الكبيرة. فمن يبدأ بـ15 دقيقة مشياً في اليوم قد لا يشعر بتغيير فوري، لكن جسده سيتذكر، ومع الوقت تبدأ الدقائق القليلة بالتضاعف وتتحول العادة إلى أسلوب حياة.
وبدلا من انتظار ساعة فراغ كاملة، وجد كثر أن تقسيم اليوم إلى ثلاث جولات قصيرة بعد كل وجبة 10 دقائق فقط يمنح نتائج مذهلة على سكر الدم والهضم والنوم، حيث ثبت أن المشي المتاح لا الفاخر، السهل لا المكلف.
أما الوتيرة؟ فلا حاجة إلى الركض أو اللهاث. المشي البطيء يكفي في البداية، ثم يمكن للخطوات أن تتسارع مع الأيام، المهم أن تمنح عضلاتك الفرصة للتأقلم ونفسك فسحة للالتزام.
ولأن الوعي يحفز الإرادة، فإن متخصصي اللياقة ينصحون باستخدام عدادات الخطى أو تطبيقات الهاتف، إذ تكشف هذه الأدوات حجم ما ننجزه كل يوم، ولو بدا بسيطاً.
ولأن المشي لا يحتاج إلى عزلة، وجد البعض في رفيق أو مكالمة هاتفية وسيلة ممتعة لتقليل شعورهم بالجهد، وكأنهم لا يمشون، بل يتحدثون فقط حتى يصلوا إلى ما يريدون.
وفي الختام، ووسط ضجيج النصائح وموجات الحميات يبقى المشي تمريناً متاحاً للجميع، لا يحتاج إلى مدرب ولا جهاز ولا اشتراك، بل يحتاج فقط إلى نية وزوج حذاء مريح وبعض التفهم من النفس.
كما قالت الطبيبة كاثرين تشن في حديثها إلى موقع “هيلث لاين” الصحي في يوليو (تموز) الماضي، “أفضل التمارين الرياضية هو ذاك الذي يمكنك الاستمرار عليه… والمشي هو تمرين الحياة السليم”.