دروس من صحفي راحل
بقلم – محمد ابو المجد
“إذا مات ابن آدم انقطع عمله من الدنيا إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.. وهل ينقص الدكتور صلاح قبضايا واحدة من الثلاثة؟! صدقاته المعنوية والمادية التي أزجاها لكل تلاميذه، ومرؤوسيه، ومن عرفوه، لا تزال آثارها حاضرة.. والعلم الذي تركه غزير، يكاد يستعصي على الحصر، فلطالما نهلنا وتعلمنا من كلماته، ومن انتقاداته.. وأحيانا من نظراته، فضلا عن كتاباته.. وعلينا أن نعترف.. ولأبدأ بنفسي.. فلم يكن لي أن أصل إلى ما وصلت إليه من تقدم في المهنة، أو مستوى متميز، إلا بعد احتكاكي بهذا الرجل.. باختصار؛ كان مدرسة صحفية تتحرك على قدمين.
أما الثالثة وهي الولد الصالح، فكلنا أولاد له، وكلنا يدعو له.. ونتمنى على الله أن نكون صالحين.
أكتب هذا بمناسبة صدور كتاب “اعترافات صحفية” للكاتب الراحل الدكتور قبضايا.. وهو عبارة عن أوراق من دفتر ذكرياته الذاخر.. بين دفتي الكتاب العديد والعديد من الأسرار الجديرة بالمطالعة، والكشف عنها للأجيال الجديدة.. وقد صاغها بحيادية، ونقلها بموضوعية، كعادته دائما، في كل الأمور، رحمه الله، دون مغالاة، أو تجاوز.
من بين تلك الأسرار؛ ما رواه عن موقف سيء بدر من شيخ الأزهر السابق الدكتور محمد طنطاوي، غفر الله له، والذي يشي بالكارثة التي نئن منها؛ نظرا لحالة الفصام التي نعيشها، بين مظهر بعض علماء الدين، ومخبرهم، وتصرفاتهم، وعلاقاتهم بالآخرين.
يروي قبضايا أنه كان مدعوا من رئاسة الجمهورية لحضور حفل تسليم وشاح النيل للدكتور أحمد زويل، رحمه الله، بعد حصوله على جائزة نوبل.. وقابل شيخ الجامع الأزهر آنذاك، حيث كان يقف وبجواره البابا شنودة، وكلاهما صامت.. فيما كانت مجموعة من الكتاب والصحفيين يحيطون بالرئيس مبارك.
وفكر قبضايا في محاولة وضع حد للأزمة التي نشبت بين أحد علماء الأزهر الذي كتب مقالا بـ “الأحرار”، انتقد فيه الإمام الأكبر، ووصفه بأنه يجهل أمورا لا يجوز لفقيه أن يجهلها، ومنها المباح والمحظور في استثمار الأموال.. ومر المقال دون أن يراه رئيس التحرير، ولكنه رفض التنصل من المسئولية، بعد أن أقام الشيخ دعوى ضده، وضد كاتب المقال.
تصور قبضايا أن صدر الإمام “الأكبر” كعلمه، ومركزه الإسلامي.. كبير وواسع.. فتوجه نحوه، وعرفه بنفسه، بعد أن بادر بمصافحته ومصافحة البابا شنودة بكل احترام.. وقال لـ “فضيلة شيخ الأزهر”: إنه لا يستطيع أن يقف أمام القضاء في مواجهة الإمام الأكبر، الذي يكن له كل احترام، مثل غيره من المسلمين، وإنه على استعداد للذهاب إلى مكتبه، ومعه هيئة التحرير لتقديم الاعتذار، ونشره بعد ذلك في الصفحة الأولى؛ تجنبا للظهور في ساحات القضاء ندا، وخصما للإمام الأكبر.
طبعا كلنا يتوقع أن يرد الشيخ التحية بخير منها، وأن يرحب بالدعوة الكريمة للتصالح والتسامح، سيما أن ديننا الحنيف، الذي يمثله الشيخ يدعو إلى ذلك، ويحض عليه بشدة.
المؤسف أن مولانا أشاح بوجهه قائلا، في غلظة مستغربة: “لايا سيدي، روح المحكمة، ودافع عن نفسك، واثبت جهلي بالأمور الفقهية”.. واستعاذ قبضايا بالله من أن يكون هذا رأيه، مبررا ما حدث بأنه زلة عالم أزهري، قد يخطئ وقد يصيب.. لكن “فضيلته” أنهى الحوار قائلا: “خلاص، الموضوع خرج من يدي”.
من الطبيعي أن يتألم قبضايا.. وأن يصاب بصدمة.. وأن يدهش ” البابا شنودة” من أن يكون هذا هو سلوك قمة علماء الدين في العالم الإسلامي، وأن يرمق “طنطاوي” بنظرة ملؤها الاستغراب والاندهاش. “اعترافات صحفية” كنز لا يفنى من أسرار السياسة، والصحافة، والدين، والبيزنس، والمجتمع… في مصر وغيرها، خلال حقبة شديدة الأهمية والخطورة من تاريخنا.
أتمنى أن تسنح لي الفرصة للعودة مرة أخرى للكتاب الرائع.