نوع أخر من أنواع الفساد «الرشوة»
بقلم الدكتور/ياسر جعفر.
تحدثنا في المقال السابقة عن مافيا العقارات وما فيها من فساد، وما فيها من تلاعب بالغش والتحايل علي القانون في البيع والشراء وينبغي علي الدولة أن تحارب بقوة هؤلاء المافيا لما فيه من تعرض حياة البشرية للخطر، وسوف نتحدث عن نوع أخر من مافيا الفساد، وهي الرشوة، نعم إن الرشوة لها شبكة كبيرة وعريضة من الفساد أكبر من شبكة الصرف الصحي.!
_والرشوة هي المال الذي يدفعه الشخص المنحرف عن طريق الاستقامة التصرف إلي شخص أخر أكثر منه انحرافاً كي يساعد أخذ الرشوة من دفعها في الحصول علي أموال أو امتيازات أو أمور لا حق فيها، بل علي حقوق الأخرين، سواء اكانوا افراداً أم جماعات، أو يخلصه من تبعات ومسئوليات كان من الواجب إن ينهض، والرشوة أسلوب من أساليب الأحتيال لإمتصاص الأخرين وحرمان المستحقين مما ثبت أو يجب أن يثبت لهم، وإذا شاعت الرشوة بين جماعة قوضت دعائم العدالة بينهم وأوجدت الفساد في إقتصادهم وعلاقاتهم ونشرت الأحقاد والضغائن فيهم..!
والأسلام ينظر إلي الرشوة علي إنها جريمة لا يليق بالمؤمن أن يرتكبها أو يشترك فيها، أو يرضي بها او يسكت عليها، ويعرف إنها محرمة يعاقب عليها صاحبها في الدنيا والأخرة، وقد استدل الفقهاء علي تحريم الرشوة بقول الله تبارك وتعالي في سورة البقرة{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}، اي لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل والأحتيال والطريق الحرام والوسيلة الأثمة، وهي طريق الرشوة وقد جعل القرأن الكريم أكل مال أخيه في الأسلام كأكل مال نفسه بالباطل، وذلك لأن الله جعل المؤمنين أخوة، ولذلك اعتبر قاتل أخيه كقاتل نفسه ومهلكها، وقد إراد الله تعالي بهذا إن ينبه علي إن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الأحترام والحفظ لمالك، لأن استحلال الأعتداء وأخذ المال بغير حق يعرض كل مال للضياع والذهاب، وكأنه قال لا يأكل بعضكم مال بعض بطريق الرشوة التي تفسد المجتمع، لأن ذلك جناية علي نفس الأكل، من حيث هو جناية علي الأمة التي هو أحد أعضائها، فلا بد إن يصيبه سهم من كل جناية تقع عليها، فهو بإستحالة مال غيره يجرئ غيره علي استحلال أكل ماله إذا أستطاع، ولقد جاء في الجزء الثاني من كتاب النهاية في غريب الحديث للأمام ابن الأثير إن النبي صلي الله عليه وسلم قال(لعن الله الراشي والمرتشي والرائش)، والراشي هو الذي يعطي مالاً أو هدية لمن يعينه علي باطل أو أثم، أو يمكنه من الحصول علي شئ لا يستحقه، والمرتشي هو الذي يأخذ المال في مقابل اعانته علي الأثم والباطل ويجعل من الحق باطلاً ومن الباطل حقاً، والرائش الوسيط بينهما، أي الذي يسمي بين الطرفين ويحاول أن يستفيد من الراشي والمرتشي معاً، أو من أحدهما وفي هذه الحالة يكون رسولاً في الباطل، وإنتشار الرشوة بين المجتمع ويكون شعار للفساد..!
_فينبغي علي رجال القانون بالضرب علي هؤلاء بشدة لأنها آفة خطيرة تتشري بين المجتمع وتجعل من الباطل حقاً، ومن الحق باطلاً، وتكون سبباً في ضياع حقوق الذين يستحقون التميز في أعمالهم، وقد تكون سبباً في شخص يكون تحت يده حقوق للبشر فيكون سبباً في ضياعها لأنه جاء للعمل عن طريق فساد وهي الرشوة،ويصير المجتمع بلا هوية حقيقة وبلا هدف بسبب هذه الآفة الخطيرة، وقد حكم الرسول صلي الله عليه وسلم علي الثلاثة باللعنة، واللعن هو الطرد من رحمة الله تعالي، مع التعرض لنقمته وعذابه، وهذا يدل علي إن الأسلام ينفر من الرشوة وكل ما هو سيئ ويضر بالفرد والمجتمع ويحيد عن العدالة، وإذا كانت الرشوة تشوه سمعة صاحبها في الدنيا، فإنها في الوقت نفسه تصب عليه غضب الله، وتجعله محروماً من نعمة التحلي بالدين السليم والخلق الكريم، ويتصل بهذا المجال أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه قال(مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ”أي اعطيناه اجراً أو مرتباً” رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ)، أي سرقة أو اختلاس يستحق عليه عقاب الله، إن الله عزيز ذو إنتقام، وذلك لأن زيادة علي ما يأخذه من أجر أو مرتب، وهو يضيف إلي هذه الجريمة جريمة أخري، وهي أنه يمكن دافع الرشوة من أشياء لا يستحقها، بل يحرم عليه أخذها، والرشوة قد تعطي بطريق غير مباشر في صورة هدية ولذلك نري رسول الله صلي الله عليه وسلم يحرم علي الولاة والحكام أن يأخذوا هدايا من الأفراد وهم في مناصبهم، ولقد حدث إن رجلاً ولاه النبي صلي الله عليه وسلم ولاية، ثم جاء الرجل بعد حين ومعه مال قدمه إلي النبي صلي الله عليه وسلم قائلاً: هذا لكم، وكان معه هدايا أخري، قال عنها: وهذا اهدي إليّ، فغضب النبي من ذلك وقام فخطب في الناس وقال(أما بعد فإني استعمل الرجل منكم علي العمل بما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا لكم وهذه هدية اهديت إليّ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه حتي تأتيه هديته إن كان صادقاً؟!
والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحداً منكم يلقي الله يحمل بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تبعر، اللهم هل بلغت” ويريد الرسول صلي الله عليه وسلم من هذا أن يمنع هؤلاء من قبول الهدايا لأنفسهم، لأنهم سيأخذونها بقوة مناصبهم وولاياتهم، وقبولهم لها يؤدي إلي محاباة أصحابها علي حساب غيرهم فتكون رشوة، فتكون حراماً، وربما تكون الهدايا في صور متعددة وربما تكون في شقة، سيارة، موبايل، ساعة، شاشة، شراكة في عمل بنسبة … إلخ من تعدد الهدايا التي هي في صورة رشوة والواجب شرعاً علي الإنسان إن ينفق ماله فيما أوجب الله من حقوق أو تبعات أو فيما اباحه كالتمتع بالطيبات، ولكنه يحرم شرعاً أن ينفق الإنسان ماله في شئ محرم كالرشوة، كما إن الشريعة حرمت أخذ المال دون مقابل حقيقي حلال لهذا المال، والقانون المعاصر يتجه إلي التيسر والتخفيف علي الشخص الذي تضطره الظروف القاهرة إلي تقديم رشوة ليصل بها إلي حقه، ثم يعترف بذلك، وهذا قد يذكرنا بما جاء في التعاليم الأسلامية، وهو إن من أعطي مالاً ليتوصل به إلي أخذ حقه، إذا دفع الظلم عنه، ولم يجد إلا هذه الطريقة، فإنه لا يدخل في نطاق اللعنة التي ذكرها النبي صلي الله عليه وسلم في حديثه ويروي التاريخ الأسلامي كما يذكر ابن الأثير في النهاية إن عبد الله بن مسعود وهو أحد الصحابة، كان في أرض الحبشة فقبضوا عليه، وقالوا له وهو مسجون: إن دفعت دينارين اطلقنا سراحك، وخلينا سبيلك فدفعهما، وقال ابن الأثير(روي عن جماعة من ائمة التابعين قالوا: لا يأس إن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم) ولكن هذا لا ينبغي إن الرشوة جريمة وانحراف، وإنها عمل لا يليق ولا يباح، لأنه يؤدي إلي الظلم وهضم الحقوق واضطراب الموازين وفساد الأمور، والله تعالي يقول{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} وقال الشيخ ابن عشيمن رحمه الله: أما الرشوة التي يتوصل بها الإنسان إلي حقه الا بشئ من المال، فإن هذا حرام علي الأخذ وليس حراماً علي المعطي، لأن المعطي إنما أعطي من أجل الوصول إلي حقه لكن الأخذ الذي أخذ تلك الرشوة هو الأثم لأنه أخذ ما لا يستحق.
_حفظ الله مصر وجعلها أمناً أماناً، حفظ الله الأمة العربية وجعلها علي قلب رجل واحد.