إيثار الدين علي الدنيا
بقلم/ الدكتور ياسر جعفر
إن موضوع إيثار الدين علي الدنيا من المواضيع الكبيرة وتحتاج مجلدات لأنه موضوع حيوي وموضوع قوي وهام جداً واللي يعرفه يرتاح في جميع حياته ومن مشاكل الدنيا وما فيها، نعم إيثار الدين علي الدنيا وعلي كل شئ حتي إيثاره علي الأهل وعلي الوالدين، نعم عن الوالدين، أنظر قوله تعالي{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} وقال تعالي{لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} إن المؤمن الحقيقي هو من جعل تقوي الله وإلتزام طاعته قبلته في هذه الحياة لا يصدفه عن إستقبالها صارف ولا يشغله عن التوجه إليها شاغل، والمؤمن الحقيقي من أتصلت نفسه بالله، والتزم في جميع أحواله مخافته ورضاه، فلم تكن في قلبه هيبة لسواه، ولا تغلب هوي نفسه علي مرضاة مولاه، والمؤمن الحقيقي من كان صادق العزيمة يبحث في كل أمر علي قدر ما يتهيأ له من طرق البحث في خدمة الدين، مستعيناً بسواه في إخوانه المؤمنين الصادقين، فإذا أتضح له السبيل عزم، ومتي عزم لا يثنيه شئ عما هو عليه، حتي إذا أعترضته الجبال تريد صده، حاول أن يفتح له منها طريقاً، أو كالذي يبتغي إلي السماء سلماً، حارب الصحابة أباؤهم وأبناءهم وإخوانهم وعشيرتهم في سبيل دينهم وعقيدتهم، قتل عبيدة بن الجراح أباه عامراً بيده لما سمع منه في رسول الله (ص) ما يكره ونهاه فلم ينته، وحينما آسأت الصحف من صعاليك الغرب إلي رسول الله (ص) لم يحرك ساكناً إلا بعض ناس من الشعوب، وللأسف يخرج عليناً آشباه الرجال محسوبين علي الأسلام ويطعنوا في سنته (ص) ولم يحرك ساكناً من بعض المسؤلين ولا الحكام مع العلم إن رسول الله (ص) دافع عن الحكام دفاع قوي وأعطي لهم مكانة قوية في أكثر من مائة حديث نذكر البعض منها علي سبيل المثال، حدثنا بندار حدثنا أبو داود حدثنا حميد بن مهران عن سعد بن أوس عن زياد بن كسيب العدوي قال كنت مع أبي بكرة ، فقال أبو بكرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من” أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله “، وعن عياض بن غنم رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص) “من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه” رواه أبي عاصم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله (ص) “عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثره عليك” رواه مسلم، وهناك أحاديث كثيرة في هذا المجال تحتاج إلي مجلدات كل هذه الأحاديث تدافع عن الحكام، ولذلك ينبغي علي حكام المسلمين أن يدافعوا عن الدين وعن رسول الله (ص) وأن يعاقب كل من يهين الدين ويهين رسول الله (ص)، وصك أبو بكر أباه صكة سقط بسببها علي الأرض لأنه سب النبي (ص) ولما كلمه رسول الله (ص) في ذلك قال، لو كان السيف قريباً مني لقتلته، ولما كانت وقعة بدر الكبري أمر رسول الله (ص) حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث أن يخرجوا لمبارزة أخوانهم من القرشيين، فأقبل حمزة إلي عتبة فقتله، وأقبل علي شيبة ففتله، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل منهما صاحبه ثم مال حمزة وعلي إلي الوليد فأجهزا عليه وأحتملا عبيدة إلي رسول الله (ص) هذا ما كان عليه خلق المؤمنين السالفين من إيثار الدين علي الأولياء والأقربين، وهذا ما مكنا لدينهم أن يظهر نوره بين العالمين، ويدخل في سلطانه من الناس مئات الملايين وهذا ما جعل خلفاء الأسلام وملوكهم وامراءهم يلتزمون إلي أقصي حد طاعة الله، ويعلنون أنهم يتولون أمور المسلمين لينقذوا حدود الدين، فإذا قصروا فليس لهم علي الناس سلطان، بل تركوا الأمر لمن هو أقدر منهم علي طاعة الرحمن وإقامة شعائر القرآن هذا سيدنا أبو بكر خليفة رسول الله (ص) يقول في أول خطاب له بعد أن بويع بالخلافة، ” أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم” فهو بهذا يخبرهم أنه خليفة لينفذ الشريعة، فإذا عدل عنها، أو تكاسل في خدمتها فلا طاعة له عليهم، وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يدعو المسلمين إلي مراقبة الله في السر والعلن، وعدم الخوف من ملك أو سلطان، إذا حاد عن جادة الحق ومنهج الإيمان، فيقول “من رأي منكم في اعوجاجاً فليقومه” ويجيبه أعرابي من أخر المسجد والله يا عمر لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فهل تظنون أن عمر أخذته عزة الحكم أو بهرته قوة السلطان، فغضب من ذلك الأعرابي الذي لم يرضي في تقويم اعوجاج عمر إلا بالسيف؟ لا لا فعمر كان علي شريعة من الحق محبة الدين وواجب المسلمين لهذا حمد الله وشكره حيث جعل في أمه محمد (ص) من يقاوم اعوجاج عمر بسيفه، وهكذا أجاب سلف المؤمنين داعي الله، فآواهم الله وأيدهم بنصره وأنقذهم من همزات الشيطان ومقارفة الأثم والطغيان، وألق قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخواناً، وعاشوا برحمته أنصاراً وأعواناً لا يهمهم ملك في دولته وسلطانه، إذا لم يراع حق الله في سره إعلانه، ولا غني في غناه وثروته إذا لم يؤد حق الله في وطنه وأمته ولا متكبر يكاد يخرق الأرض بأقدامه، ويبلغ الجمال طولاً بقامته وهليمانه، إذا لم يكن لأولياء الله ولياً ولأعدائه معادياً، وكانوا في سبيل الإيمان والعقيدة وإرضاء الضمير، لا يطمعون في ثواب عاجل، ولا يغترون بعرض زائل، هذا سعيد بن المسيب من كبار التابعين، رفض أن يزوج ابنته للوليد بن عبد الملك بن مروان وهو ولي عهد المسلمين، وقال، إن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، وما عبد الملك إلا باطل، يريد أن يخطبني لبيعته، بتزويج ابنتي لولي عهده فكيف أرضيه، وأغضب رب العالمين، وكانوا في سبيل الحق والدفاع عنه والرجوع إليه يؤترون محبة الله ورضاه علي كل من سواه، خاصم رجل الخليفة المهدي في حق له أمام القضاء فقال الخليفة للقاضي أحكم بيننا فحكم القاضي للرجل ضد الخليفة، ففرح المهدي أن جعل الله في قضاته من ينصر المظلوم مهما كان ضعيفاً علي الظالم مهما كان قوياً، والتاريخ ملأن بآثاره هذه الشجاعة والعدالة والرجوع إلي الحق من عظماء الأسلام وأبنائه الأعلام، كان منهم الكريم تفيض نعمه الله عليه، فيفيضها علي من حواليه وتبسط يد الخير لإسعافه، فيسعف بها من يعيشون في أكنافه، وكان منهك الحامي لدينه الذائد عن حياضه، لا ينام ويترك المنكر في دينة ظاهراً، ولا يقر له عيش مادام كتاب الله معطلاً، وكان منهم من لا يبالي في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يلازمه الشقاء أو تسفك منه الدماء ما دام قد أثر محبة الله ورضاه علي متاع هذه الحياة، هذا دستور القرآن يقرع الآذان ويوقظ بحكمه الغالية القلوب، ويشفي بآياته الكريمة الصدور، ويقوي بوعده ووعيده، ويبين أن النجاح والنفاذ في هذه الحياة لا يكونان إلا بالعزم والصبر والأخلاص التام، والأتكال علي الله الواحد العلام وأن يري المسلم أن السعادة كل السعادة فيما كام هدايه لنفسه أو هداية بها، ولو لاقي كل صنوف الإيذاء والألم، ” وما لنا إلا نتوكل علي الله وقد هدانا سبلنا” ولنصبرن علي ما آذيتمونا وعلي الله فليتوكل المتوكلون” إن الدنيا دار لعب ولهو، وإن الدين الحق ليس في تلك القشور التي يتظاهر بها المسلمون في صلاة لا تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، وصيام لا يوقظهم إلي حق الله الأكبر، وحج لا يتخذونه إلا رياضة خلوية أو نزهة بحرية أو جوية يتحلون به بين الناس وإنما الدين الحق هو الذي تخالط بشاشة القلوب، ويلجأ فيه المؤمن إلي علام الغيوب، الدين الحق ألا نطيق رؤية المنكر بين أظهرنا دون أن نغيره، وأن نغار علي فرضه غيرة الحر الكريم علي شرفه وعرضه، وأن نحرص علي تعاليمه حرص البخيل علي ماله، وأن نؤثر محبة الله ورضاه علي جميع مباهج هذه الحياة، وأن نحب في الله ونبغض في الله ونعادي في الله ونصادق في الله، بهذا لا بغيره نستكمل أسباب الأيمان ونهزم حزب الشيطان ونستحق الحمد والثناء علي طول الزمان، قال رسول الله (ص) ” لا تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها، وتدفع عنه العذاب والنقمة مالم يستخفوا بحقها، قالوا يا رسول الله، وما الأستخفاف بحقها؟ قال، يظهر العمل بمعاصي الله تعالي فلا ينكر ولا يغير” وقال (ص) ” ما أقر قوم المنكر بين أظهرهم إلا عمهم الله بعذاب محتضر” وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، كان رسول الله (ص) إذا أصبح يقول ” اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور” وإذا أمسي قال مثل ذلك، إلا أنه قال، رد وإليك المصير” أخرجه الأربعة..
وإلي هنا أكتفي بهذا القدر نسأل الله العظيم رب العرش العظيم لجميع الأمة الأسلامية الهداية والأرشاد بكتاب الله وسنة رسوله (ص).