فساد النفوس البشرية



بقلم الدكتور ياسر جعفر

تحدثنا في المقالات السابقة مع السادة القراء عن فساد العقارات ومافيا العقارات وما فيها من فساد للاقتصاد والغش والخداع، وأيضاً تحدثنا عن فساد التعليم وما يحتويه علي فساد المجتمع وهلاك الدول، وأيضاً عن فساد فيرس الرشوة في المجتمع وكيفية تحريمها وكيفية ضياع الحقوق في المجتمع بسبب هذه الآفة الخطيرة وهي الرشوة، ونحن في هذا الصدد لهذا المقال سنعرض علي أعينكم قضية وهي من أهم قضايا المجتمعات وتعتبر من أخطر أنواع الفساد علي الإطلاق لأنها مبدأ كل مصيبة ومبدأ كل جريمة ومبدأ كل فساد يقع في الأسر أو المجتمعات وهي فساد النفوس، ويعتبر فساد النفوس من أخطر أنواع الفساد وهو الأصل في جميع شتي الفساد سواء مع الفرد أو الأسرة أو المجتمع لأنه جرثومة خطيرة معدية تنتشر بين البشر وكأنها وباء يدمر المجتمعات ولذلك حظرنا الدستور الإلهي في عدة آيات من شدة خطورتها لأنها بداية كل كارثة سواء بالأسرة أو المجتمع قال تعالي{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}، والنفس إذا اكتملت وطهرت واستقامت علي الطريق كانت نفسياً مطمئنة راضية مرضية، تري الخير خيراً وتحث عليه وتري الشر شراً وتحذر منه، وهي إذا وصلت إلي هذا الحد كانت مرادفة لما يعبر عنه بالضمير غير إن هذا الضمير لا يكون بهذه القوة إلا إذا تهذبت النفس وتربت ومرنت علي أعمال الخير وصارت علي النهج السوي المستوحي من القيم الأدبية والتعاليم الروحية التي كانت الأديان الإلهية مصدرها الأول ومنبعها الأصيل، وملهمها الرشيد، يقول وابصة بن معبد: رأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم، وأنا أريد إلا أدع شيئاً من البر والإثم إلا سألت عنه، فقال لي، أدن يا وابصة، فندوت منه حتي مست ركبتي ركبتيه فقال لي: يا وابصة أخبرك بما جئت تسأل عنه؟ قلت يا رسول الله أخبرني، قال: جئت تسأل عن البر والإثم، قلت نعم، فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكث بها في صدري ويقول يا وابصة، استفت قلبك، البر ما أطمأنت إليه النفس وأطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وأن أفتاك الناس وأفتوك)رواه أحمد، وفي رواية مسلم(سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ فَقَالَ: الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)، وهنا مشكلة كبيرة أشار إليها رسول الله صلي الله عليه وسلم وهي” الصدر ” والصدر أي المقصود القلب، والقلب هنا بيت يلعب فيه الشيطان والنفس، فيا أيها الإنسان ليه تطاوع قلبك بالكراهية تجاه جارك أو زميل لك في الدراسة أو في العمل، ليه تطاوع قلبك بالحقد والحسد تجاه جيرانك، ليه تأذي جارك، ليه تطاوع نفسك وتغتاب البشر، ليه تطاوع نفسك للغش والنصب علي البشر، ليه تطاوع نفسك أيها الإنسان بالحقد علي الغني أو اللي ربنا وفقه في مجال ما، ليه بتطاوع نفسك وتجري وراء هواك؟ طيب أنت مش خايف من عقاب الله، الرسول صلي الله عليه وسلم رسم لنا الطريق بإيجاز، نظف قلبك يا أخي خليك راقي مع نفسك لا تؤذي غيرك، ليه تطاوع نفسك وتغير وتحقد علي زميل لك؟ علي رأي الشاعر” يا حاسدين الناس، مالكوا ومال الناس دا كل قلب في ألم ولكل واحد كاس، أنت ليه بتطاوع نفسك وتأخذ رشوة لتضيع حق غيرك وهذا غير شرعي، ليه تطاوع نفسك وتحارب أخوك ومش عايز تعطي له ميراثه الشرعي؟! ليه تطاوع نفسك وتقوم بإعاقة والديك، ليه تطاوع نفسك ولا تحترم الكبير وترحم الصغير، ليه تطاوع نفسك وتشدد علي أخيك المسلم، ليه تطاوع شيطان نفسك وتعتدي علي حقوق البشر، ليه تطاوع نفسك وتأكل مال اليتيم، ليه تطاوع شيطان نفسك وتتعامل بالربا، ليه تطاوع مارد نفسك الشيطاني وتأكل أموال الناس بالباطل، ليه تطاوع هوي نفسك وتكذب وتسرق وتنهب حقوق غيرك، ليه تطاوع نفسك وتتزوج وأنت ليس قد مسئولية الزواج وتهين ولآد الناس، ليه تطاوع نفسك وتهين وطنك وبلدك وبعيد كل البعد عن الانتماء ليه تطاوع نفسك وتسهر طوال الليل وتنام النهار كله، ليه تطاوع نفسك مع أن الله حذرنا منها في قوله تعالي{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، ليه أيها الإنسان المحترم تطاوع هوي نفسك في ظلم الناس، ليه تجعل دائماً نفسك مليئة بالفساد ضد الناس، ليه تطاوع هوي نفسك وتخون الأمانة، أليس هذا فساد، ليه تطاوع نفسك أيها الرجل وتقبل علي بنتك زواجها من رجل ليس صالحاً وليس ذو أخلاق، أليس هذا هو الفساد بعينه، وأعلم أيها الإنسان إن هذه الحاسة الباطنية إذا وصلت إلي هذه المنزلة كمال نضج النفس البشرية وهذه الحاسة المقصودة كما في رواية لمسلم(البر حسن الخلق والإثم ماحاك في صدرك)(قلبك) وكرهت أن يطلع عليه الناس) ولكن كيف تنضج النفس وكيف تنصهر حتي نخلص إلي هذا الوضع السامي الكريم، أتكون الثقافات المختلفة والأعراف المتباينة والقوانين الوضعية هي البوتقة التي عولجت فيها والنماذج التي صبت عليها حتي خرجت في هذا الشكل السوي؟! ظن كثير من الناس أن ذلك هو الطريق إلي تربية الضمير، وركز أكثرهم عليه ونسو تعاليم الدين الإسلامي فيما أمره وفيما نهي عنه، وأعلم أيها الإنسان أن النفس هي الروح التي تتعامل مع البشر لأن النفس بمعني الروح يقال: خرجت نفس فلان أي روحه، ومنه قولهم فاضت نفسه أي خرجت روحه، والنفس بمعني حقيقة الشئ وجملته، وأهلك نفسه أي أوقع الإهلاك بذاته كلها، قال تعالي{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الزمر 42، يريد الأرواح، قال تعالي{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ}{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، قال الطاهر بن عاشور في تفسيره، والنفس تطلق علي العقل وعلي ما به الإنسان إنسان، وهي الروح الإنساني وتطلق علي الذات، والمعني هنا: تعلم ما اعتقده، أي تعلم ما أعلمه، لأن النفس مقر العلوم في المتعارف، وإضافة النفس إلي اسم الجلالة هنا، بمعني العلم الذي لم يطلع عليه غيره، أي ولا أعلم ما تعلمه أي مما انفردت بعلمه، وقد حسنه هنا المشاكلة كما أشار إليه في الكشاف، أيها الإنسان جاهد نفسك ولا تعصي الله وأجعل من نفسك نفس مطمئنة راضية كما في قوله تعالي{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}، ليه تطاوع هوي نفسك ولا تكون من النفوس السامية الراقية المطمئنة بذكر الله وطاعة الله وما يخالف شرع الله، وليه أنت لم تأخذ بقوله تعالي{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، أنت ليه مصمم تطاوع هوي نفسك وتفسد في الأرض أما آن الأوان للتوبة والرجوع؟ صدقني هتندم علي كل ما أقترفتها نفسك، أرجع إلي الله وتوب إلي الله وحاول تصلح من نفسك ومن أهلك وجيرانك وأصدقائك وكن إنساناً نبراساً ليقتدي بك الأخرين دائماً جاهد نفسك ولا تطاوع هواك في الفساد والأضرار بالبشر وحكم عقلك واجعل من كتاب الله دستور ينير حياتك ويطهر قلبك من السواد الأعظم، ومن خصائص العقل البشري أنه يتأمل فيما يدركه ويقلبه علي وجوهه ويستخرج منه بواطنه وأسراره ويبني عليها نتائجه وأحكامه ومن هنا كانت مظاهر الحفاوة بالغة بالإنسان، هذا المخلوق الفريد الذي صور قيمته التعبير القرآني الواضح فقال{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} إنه التكريم في أعلي صورة من صوره لهذا المخلوق الذي وهبه العقل، ذلك السر الخطير، أداة المحاولة التي لا تفتر، والمعرفة التي لا تنحي في طلب المزيد، ومن هنا أيضاً كان التفكير ضرورة من الضرورات التي حتمها الإسلام وجعلها فرضاً مفروضاً، وحفز الإنسان إلي التأمل الواعي الذي يدرك الحقائق، ويعصم الضمير ويميز بين الأمور ويتبصر ويحسن النظر، فلا تضله المورونات، ولا تلتوي به السلبيات عن الجادة، تب إلي الله واستغفر ربك لأنك أخطأت في حق نفسك كثير، وأفسدت في الأرض وفي معاملاتك مع البشر، يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم(كل بني أدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) والله سبحانه وتعالي يفرح بتوبة عبده كما يقرر ذلك الحديث النبوي الشريف(إن الله يفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض مهلكة، معه دابته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة فأستيقظ فلم يجد راحلته، فطلبها فلم يجدها حتي إذا اشتد عليه الجوع والعطش وكابهلك، ذهب إلي ظل شجرة ونام مستسلماً للموت ثم استيقظ وإذا راحلته أمامه عليها طعامه وشرابه، فوجد لذلك في نفسه فرحة شديدة، يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم(إن الله أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده) ذلك أدب الله لعباده، وذلك أدب رسول الله صلي الله عليه وسلم، لا تهلك نفوس من اليأس ولا يستعصي علي المغفرة ذنب ولا يليق بالمسلم مهما يكن ورعاً تقياً أن يقف عقبة في سبيل شفاء المرضي ومواساة المذنبين، وأنبياء الله ورسولهم وحدهم المعصومين من الخطايا والذنوب، أرجع إلي الله عن معاصي نفسك وتوب وأنصح غيرك من الأصدقاء والجيران والزملاء إلي التوبة لأن الدين النصيحة، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم(الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولائمة المسلمين وعامتهم)، قال تعالي{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} وكن إنساناً يمتاز بالأخلاق الحسنة في جميع معاملاتك مع البشر، يقول رسول الله(ص)(ما من شئ أثقل في الميزان يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذئ، وإن صاحب الخلق الحسن ليبلغ به خلقه درجة الصائم القائم) قال(ص)(اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) ودائماً وابداً تذكر قوله تعالي{وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} وتذكر أيضاً حديث رسول الله(ص)(المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه: كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) متفق عليه. وإلي اللقاء في المقالة القادمة إن شاء الله تعالي.

زر الذهاب إلى الأعلى